فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)}
ذكر تعالى حالة {المتقين} بعقب ذكر حالة أهل النار ليبين الفرق، و(الظلال) في الجنة عبارة عن تكاثف الأشجار وجودة المباني وإلا فلا شمس تؤذي هنالك حتى يكون ظل يجير من جرها، وقرأ الجمهور: {في ظلال} وقرأ الأعرج والأعمش {في ظُلل} بضم الظاء، و(العيون): الماء النافع، وقوله تعالى: {مما يشتهون} إعلام بأن المأكل والمشرب هنالك إنما يكون برسم شهواتهم بخلاف ما هي الدنيا عليه، فإن ذلك فيه شاذ ونادر، والعرف أن المرء يرد شهوته إلى ما يقتضيه وجده، وهنا محذوف يدل عليه اللفظ تقديره يقال لهم {كلوا} و{هنيئاً} نصب على الحال، ويجوز أن يكون نصبه على جهة الدعاء، والكاف في قوله: {إنا كذلك} كاف تشبيه، والإشارة بذلك إلى ما ذكره من تنعيم أهل الجنة، وقوله تعالى: {كلوا وتمتعوا} مخاطبة لقريش على معنى قل لهم يا محمد، وهذه صيغة أمر معناها التهديد والوعيد، وقد بين ذلك قوله: {قليلاً}، ثم قرر لهم الإجرام الموجب لتعذيبهم، وقال من جعل السورة كلها مكية: إن هذه الآية نزلت في المنافقين، وقال مقاتل: نزلت في ثقيف لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني فإنها سبة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا خير في دين لا صلاة فيه» وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} قيل هي حكاية عن حال المنافقين في الآخرة إذا سجد الناس فأرادوا هم السجود فانصرفت أصلابهم إلى الأرض وصارت فقاراتهم كصياصي البقر، قاله ابن عباس وغيره، وقال قتادة في آخرين هذه حال كفار قريش في الدنيا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم وهم لا يجيبون، وذكر الركوع عبارة عن جميع الصلاة، هذا قول الجمهور، وقال بعض المتأولين عنى بالركوع التواضع كما قال الشاعر: الطويل:
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر

أي متذللة، وتأول قتادة الآية قاصدة الركوع نفسه. وقال: عليكم بحسن الركوع، والذي أقول إن ذكر الركوع هنا وتخصيصه من بين سائر أحوال العبادة إنما كان لأن كثيراً من العرب كان يأنف من الركوع والسجود ويراها هيئة منكرة لما كان في أخلاقهم من العجرفة، ألا ترى أن بعضهم قد سئل فقيل له: كيف تقول؟ استخذأت أو استخذيت؟ فقال: كل لا أقول. فقيل له لم؟ قال: لأن العرب لا تستخذي، فظن أنه سئل عن المعنى ولم يفهم أنه سئل عن اللفظ. وفي كتاب السير عن بعض العرب أنه استعفى متكلماً عن قومه ونفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال له: «لابد من الصلاة»، فقال عند ذلك سنؤتيكها، وإن كانت دناءة، وقوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} يؤيد أن الآية كلها في قريش، والحديث الذي يقتضيه الضمير هو القرآن، وهذا توقيف وتوبيخ، وروي عن يعقوب أنه قرأ: {تؤمنون} بالتاء من فوق على المواجهة ورويت عن ابن عامر. انتهى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ}
أخبر بما يصير إليه المتقون غداً، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظلّ في الشعب الثلاث.
وفي سورة ياس {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} [ياس: 56] {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنون.
وقراءة العامة {ظِلاَلٍ}.
وقرأ الأعرج والزهريّ وطلحة {ظُلَلٍ} جمع ظُلّة يعني في الجنة.
{كُلُواْ واشربوا} أي يقال لهم غداً هذا بدل ما يقال للمشركين {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}.
ف {كُلُوا واشربوا} في موضع الحال من ضمير {الْمُتَّقِينَ} في الظرف الذي هو {فِي ظِلاَلٍ} أي هم مستقرّون {فِي ظِلاَلٍ} مقولاً لهم ذلك.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
قوله تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً}
هذا مردود إلى ما تقدم قبلَ المتقين، وهو وعيد وتهديد وهو حال من (المُكَذِّبِينَ) أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً}.
{إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} أي كافرون.
وقيل: مكتسبون فعلاً يضركم في الآخرة، من الشرك والمعاصي.
قوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: {اركعوا} أي صلّوا {لاَ يَرْكَعُونَ} أي لا يصلون؛ قاله مجاهد.
وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم.
قال مقاتل: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أسلموا» وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مَسبَّة علينا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود».
يُذْكَر أن مالكاً رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبيّ: يا شيخ قم فاركع.
فقام فركع ولم يحاجِّه بما يراه مذهباً، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ}.
وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يُدْعون إلى السجود فلا يستطيعون.
قتادة: هذا في الدنيا.
ابن العربيّ: هذه الآية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركناً في الصلاة وقد انعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يُدْعون إلى السجود كشفاً لحالِ الناس في الدنيا، فمن كان لِلَّهِ يسجد يمكن من السجود، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طَبَقاً واحداً.
وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد.
وقيل: الأمر بالإيمان؛ لأنها لا تصح من غير إيمان.
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حديث بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام، فبأي شيء يصدّقون! وكُرِّر {ويل يومِئذٍ للمكذبِين} لمعنى تكرير التخويف والوعيد.
وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر؛ كأنه ذكر شيئاً فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئاً آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئاً آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا.
ثم كذلك إلى آخرها.
ختمت السورة ولله الحمد. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ المتقين}
من الكفر والتكذيب لوقوعه في مقابلة المكذبين بيوم الدين فيشمل عصاة المؤمنين {فِى ظلال} جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس ويعبر به أيضاً عن الرفاهة وعن العزة والمناعة وعلى هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتبادر منه ما هو المعروف ويؤيده ما تقدم في المقابل {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب} [المرسلات: 30] إلخ وقراءة الأعمش {في ظلل} جمع ظلة وأياً ما كان فالمراد من قوله تعالى: {إِنَّ المتقين في ظلال} {وَعُيُونٍ}.
{وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ} إنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم.
{كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} مقدر بقول هو حال من ضمير {المتقين} في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولاً لهم كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون في الدنيا من العمل الصالح بالإيمان وغير ذلك.
{إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثل ذلك الجزاء العظيم {نَجْزِى المحسنين} لاجزاء أدنى منه والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير مدحاً لهم بصفة الإحسان أيضاً مع الإشعار بعلة الحكم وجوز أن يراد بالمتقين والمحسنين الصالحون من المؤمنين ولا دليل فيه للمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر في النار وغاية الأمر عدم التعرض لحالهم.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا في العذاب الأليم.
{كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من الأجلة أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيراً لما كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاء بأن يخاطبوا به حيث تركوا الحظ الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير وعلى طريقته قوله: إخوتى لا تبعدوا أبدا ** وبلى والله قد بعدوا
فهو دعاء لإخوته بعدم الهلكة بعد هلاكهم تقريراً بأنهم كانوا أحقاء بذلك الدعاء في حياتهم وأن هلاكهم لحينونة الأجل المسمى لا لأنهم كانوا أحقاء بالدعاء عليهم وذهب أبو حيان إلى أنه كلام مستأنف خوطب به المكذبون في الدنيا والأمر فيه أمر تحسير وتهديد وتخسير ولم يعتبر التهديد على الأول لأنه غير مقصود في الآخرة ورجح بأنه أبعد من التعسف وأوفق لتأليف النظم وفيه نظر والظاهر أن قوله سبحانه: {إِنَّكُمْ} إلخ في موضع التعليل وفيه دلالة على أن كل مجرم نهايته تمتع أيام قليلة ثم يبقى في عذاب وهلاك أبداً.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا} أي أطيعوا الله تعالى واخشعوا وتواضعوا له عز وجل بقبول وحيه تعالى واتباع دينه سبحانه وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة {لاَ يَرْكَعُونَ} لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على ما هم عليه من الاستكبار وقيل أي إذا أمروا بالصلاة أو بالركوع فيها لا يفعلون إذ روي عن مقاتل أن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام حط عنا الصلاة فإنا لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» ورواه أيضاً أبو داود والطبراني وغيرهما وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى: {لّلْمُكَذّبِينَ} كأنه قيل ويل يومئذٍ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وجوز أن يكون أيضاً بقوله سبحانه: {إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} [المرسلات: 46] على طريقة الالتفات كأنه قيل هم أحقاء بأن يقال لهم كلوا وتمتعوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلوا لا يصلون واستدل به على أن الأمر للوجوب وأن الكفار مخاطبون بالفروع.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ فَبِأَيّ حديث بَعْدَهُ} أي بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين على نمط بديع معجز مؤسس على حجج قاطعة وبراهين ساطعة {يُؤْمِنُونَ} إذ لم يؤمنوا به والتعبير ببعده دون غيره للتنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه فضلاً أن يفوته ويعاليه فلا حديث أحق بالإيمان منه فالبعدية للتفاوت في الرتبة كما قالوا في {عتل بعد ذلك زنيم} [القلم: 13] وكان الفاء لما أن المعنى إذا كان الأمر كذلك وقد اشتمل القرآن على البيان الشافي والحق الواضح فما بالهم لا يبادرون الإيمان به قبل الفوت وحلول الويل وعدم الانتفاع بعسى ولعل وليت وقرأ يعقوب وابن عامر في رواية {تؤمنون} على الخطاب هذا ولما أوجز في سورة الإنسان في ذكر أحوال الكفار في الآخرة وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها عكس الأمر في هذه السورة فوقع الاعتدال بذلك بين هذه السورتين والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)}
يجوز أن يكون هذا ختام الكلام الذي هو تقريع للمشركين حكي لهم فيه نعيم المؤمنين الذي لا يشاهده المشركون لبعدهم عن مكانه فيحكى لهم يومئذٍ فيما يقال لهم ليكون ذلك أشد حسرة عليهم وتنديماً لهم على ما فرطوا فيه مِمَا بَادر إليه المتقون المؤمنون ففازوا، فيكون هذا من جملة القول الذي حذف فعله عند قوله: {انطلقوا} [المرسلات: 29] الخ.
ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام مستأنف انتقل به إلى ذكر نعيم المؤمنين المتقين تنويهاً بشأنهم وتعريضاً بترغيب من المشركين الموجودين في الإقلاع عنه لينالوا كرامة المتقين.
و{ظِلال}: جمع ظِلّ، وهي ظلال كثيرة لكثرة شجر الجنة وكثرة المستظلّين بظلها، ولأن لكل واحد منهم ظلاً يتمتع فيه هو ومَن إليه، وذلك أوقع في النعيم.
والتعريف في {المتقين} للاستغراق فلكل واحد من المتقين كون في ظلال.
و{في} للظرفية وهي ظرفية حقيقية بالنسبة للظلال لأن المستظل يكون مظروفاً في الظل، وظرفية مجازية بالنسبة للعيون والفواكه تشبيهاً لكثرة مَا حولهم من العيون والفواكه بإحاطة الظروف، وقوله: {مما يشتهون} صفة {فواكه}.
وجمع {فواكه} الفواكه وغيرها، فالتبعيض الذي دلّ عليه حرف (من) تبعيض من أصناف الشهوات لا من أصناف الفواكه فأفاد أن تلك الفواكه مضمومة إلى ملاذ أخرى ممّا اشتهوه.
وجملة {كلوا واشربوا} مقول قول محذوف، وذلك المحذوف في موقع الحال من {المتقين}، والتقدير: مقولاً لهم كلوا واشربوا.
والمقصود من ذلك القول كرامتهم بعرض تناول النعيم عليهم كما يفعله المضيف لضيوفه فالأمر في {كلوا واشربوا} مستعمل في العَرض.
و{هنيئاً} دُعاء تكريم كما يقال للشارب أو الطعام في الدنيا: هَنيئاً مريئاً، كقوله تعالى: {فكلوه هنيئاً مريئاً} في سورة النساء (4).
و{هنيئاً} وصف لموصوف غيرِ مذكور دل عليه فعل {كلوا واشربوا} وذلك الموصوف مفعول مطلق من {كلوا واشربوا} مُبيّن للنوع لقصد الدعاء مثل: سَقْياً ورَعياً، في الدعاء بالخير، وتَبّاً وسُحْقاً في ضده.
والباء في {بما كنتم تعملون} للسببية، أي لإِفادة تسبب ما بعدها في وقوع متعلَّقه، أي كلوا واشربوا بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة وذلك من إكرامهم بأنْ جعل ذلك الإِنعام حقاً لهم.
وجملة {إنا كذلك نجزي المحسنين} يجوز أن تكون مما يقال للمتقين بعد أن قيل لهم {كلوا واشربوا} إلخ مسوقة إليهم مساق زيادة الكرامة بالثناء عليهم، أي هذا النعيم الذي أنعمتُ به عليكم هو سُنتنا في جزاء المُحسنين فإذْ قد كنتم من المحسنين فذلك جزاء لكم نِلتموه بأنكم من أصحاب الحق في مثله، ففي هذا هَزٌّ من أعطاف المنعم عليهم.
والمعنى عليه: أن هذه الجملة تقال لكل متّق منهم، أو لكل جماعة منهم مجتمعة على نعيم الجنة، وليعلموا أيضاً أن أمثالهم في الجنات الأخرى لهم من الجزاء مثل ما هم ينعمون به.
ويجوز أن تكون الجملة موجهة إلى المكذبين الموجودين بعد أن وصف لهم ما ينعم به المتقون إثر قوله: {إن المتقين في ظلال وعيون} الخ، قصد منها التعريض بأنّ حرمانهم من مثل ذلك النعيم هم الذين قضوا به على أنفسهم إذ أبوا أنْ يكونوا من المحسنين تكملة لتنديمهم وتحسيرهم الذي بودئوا به من قوله: {إنّ المتقين في ظلال وعيون} إلى آخره، أي إنا كذلك نجزي المحسنين دون أمثالكم المسيئين.
وموقع الجملة على كلا الاعتبارين موقع التعليل لما قبلها على كلا التقديرين فيما قبلها، ومن أجْل الإِشعار بهذا التعليل افتُتحت بـ {إنَّ} مع خلو المقام عن التردد في الخبر إذ الموقف يومئذٍ موقف الصدق والحقيقة، فلذلك كانت {إنَّ} متمحضة لإِفادة الاهتمام بالخبر وحينئذٍ تصير مُغنية غناء فَاء التسبب وتفيد مُفاد التعليل والربط كما تقدمت الإِشارة إليه عند قوله تعالى: {إن البَقر تشابه علينا} [البقرة: 70] وتفصيلَه عند قوله: {إنَّ أول بيت وُضِع للنَّاس للذي ببكة} في سورة آل عمران (96).
والإِشارة بقوله: {كذلك} إلى النعيم المشاهد إن كانت الجملة التي فيها إشارة موجهة إلى {المتقين}، أو الإِشارة إلى النعيم الموصوف في قوله: {في ظِلال وعيون} إن كانت الجملة المشتملة على اسم الإِشارة موجهة إلى المكذبين.
والجملة على كل تقدير تفيد معنى التذييل بما اشتملت عليه من شبه عموم كذلك، ومن عموم المحسنين، فاجتمع فيها التعليل والتذييل.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)}
هي على الوجه الأول في جملة {إنَّ المتقين في ظِلال وعيون} [المرسلات: 41] تكرير لنظائرها واليوم المضاف إلى (إذْ) ذاتِ تنوين العوض هو يوم صدور تلك المقالة.
وأما على الوجه الثاني في جملة {إن المتقين في ظِلال وعيون} [المرسلات: 41] إلخ فهي متصلة بتلك الجملة لمقابلة ذكر نعيم المؤمنين المُطْنَب في وصفه بذكر ضده للمشركين بإيجاز حاصل من كلمة {ويل} لتحصل مقابلة الشيء بضده ولتكون هذه الجملة تأكيداً لنظائرها، واليوم المضاف إلى (إذ) يومٌ غير مذكور ولكنه مما يقتضيه كون المتقين في ظِلال وعيون وفواكه ليعلم بأن ذلك يكون لهم في يوم القيامة.
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)}
خطاب للمشركين الموجودين الذين خوطبوا بقوله تعالى: {إن ما توعدون لواقع} [المرسلات: 7]، وهو استئناف ناشئ عن قوله: {إنا كذلك نجزي المحسنين} [المرسلات: 44] إذ يثير في نفوس المكذبين المخاطبين بهذه القوارع ما يكثر خطوره في نفوسهم من أنهم في هذه الدنيا في نعمة محققة وأن ما يُوعدون به غير واقع فقيل لهم: {كلوا وتمتّعوا قليلاً}.
فالأمر في قوله: {كلُوا وتمتَّعوا} مستعمل في الإِمهال والإِنذار، أي ليس أكلكم وتمتعكم بلذات الدنيا بشيء لأنه تمتع قليل ثم مأواكم العذاب الأبدي قال تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبيس المهاد} [آل عمران: 196، 197].
وجملة {إنكم مجرمون} خبر مستعمل في التهديد والوعيد بالسوءِ، أي إن إجرامكم مُهْوٍ بكم إلى العذاب، وذلك مستفاد من مقابلة وصفهم بالإِجرام بوصف {المتقين} [المرسلات: 41] بالإِحسان إذ الجزاء من جنس العمل، فالجملة واقعة موقع التعليل.
وتأكيد الخبر بـ (إنَّ) لرد إنكارهم كونَهم مجرمين.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)}
هو مثل نظيره المذكور ثانياً في هذه السورة.
ويزيد على ذلك بأن له ارتباطاً خاصاً بجملة {كُلوا وتمتعوا قليلاً} [المرسلات: 46] لما في {تمتّعوا قليلاً من الكناية عن ترقب سوء عاقبة لهم فيقع قوله ويل يومئذٍ للمكذبين} موقع البيان لتلك الكناية، أي كلوا وتمتعوا قليلاً الآن وويل لكم يوم القيامة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)}
يجوز أن يكون عطفاً على قوله: {للمكذبين} [المرسلات: 47]، والتقدير: والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، فإن (آل) الداخلة على الأوصاف المشتقة بمنزلة اسم الموصول غالباً، ولذلك جعلها النحاة في عداد أسماء الموصول وجعلوا الوصف الداخلة عليه صلةً لها.
ويجوز أن يكون عطفاً على جملة {كُلوا وتمتعوا قليلاً} [المرسلات: 46] والانتقال من الخطاب إلى الغيبة التفات.
وعلى كلا الوجهين فهو من الإِدماج لينعى عليهم مخالفتهم المسلمين في الأعمال الدالة على الإِيمان الباطننِ فهو كناية عن عدم إيمانهم لأن الصلاة عماد الدين ولذلك عُبر عن المشركين بـ {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5].
والمعنى: إذا قيل لهم آمنوا واركعوا لا يؤمنون ولا يَركعون كما كني عن عدم الإِيمان لما حكي عنهم في الآخرة {ما سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 42 44] إلى آخره.
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله: {إنكم مجرمون} [المرسلات: 46].
وعلى الوجوه كلها يفيد تهديدهم لأنه معطوف على التكذيب أو على الإِجرام، وكلاهما سبب للتهديد بجزاء السوء في يوم الفصل.
وليس في الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لعدم تعيُّن معنى المصلين للذين يقيمون الصلاة.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)}
هذه الجملة مثل نظيرها المواليةِ هي له، إذ يجوز أن تكون متصلة بقوله: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48] ويكون التعبير بـ (المكذبين) إظهاراً في مقام الإِضمار لقصد وصفهم بالتكذيب.
والتقدير: ويل يومئذٍ لهم أو لكم فهي تهديد ناشئ عن جملة {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون}، ويكون اليوم المشار إليه بـ: {يومئذٍ} الزمان الذي يفيده {إذا} من قوله: {وإذا قيل لهم اركعوا} الذي يُجازى فيه بالويل للمجرمين الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، أي لا يؤمنون، وتفيد مع ذلك تقريراً وتأكيداً لنظيرها المذكور ثانياً في هذه السورة.
{فَبِأَيِّ حديث بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}
الفاء فصيحة تنبئ عن شرط مقدر تقديره: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعده يؤمنون، وقد دل على تعيين هذا المقدَّر ما تكرر في آيات {ويل يومئذٍ للمكذبين} [المرسلات: 49] فإن تكذيبهم بالقرآن وما جاء فيه من وقوع البعث.
والاستفهام مستعمل في الإِنكار التعجيبي من حالهم، أي إذا لم يصدقوا بالقرآن مع وضوح حجته فلا يؤمنون بحديث غيره.
والمقصود أن القرآن بالغ الغاية في وضوح الدلالة ونهوض الحجة فالذين لا يؤمنون به لا يؤمنون بكلام يسمعونه عقب ذلك.
وقوله: {بعده}: يجوز أن يجعل صفةَ {حديث} فهو ظرف مستقِرّ، والمراد بالبعدية: تأخر الزمان، ويقدر معنى بالغ أو مسموع بعد بلوغ القرآن أو سماعه سواء كان حديثاً موجوداً قبل نزول القرآن، أو حديثاً يوجد بعد القرآن، فليس المعنى إنهم يؤمنون بحديث جاء قبلَ القرآن مثل التوراة والإِنجيل وغيرهما من المواعظ والأخبار، بل المراد أنهم لا يؤمنون بحديث غيره بعدَ أن لم يؤمنوا بالقرآن لأنه لا يقع إليهم كلام أوضح دلالة وحجة من القرآن.
ويجوز أن يكون {بعده} متعلقاً بـ {يؤمنون} فهو ظرف لغو ويبقى لفظ {حديث} منفياً بلا قيد وصفِ أنه بعد القرآن، والمعنى: لا يؤمنون بعد القرآن بكل حديث.
وضمير {بعده} عائد إلى القرآن ولم يتقدم ما يدل عليه في هذه السورة ليكون معاداً للضمير ولكنه اعتبر كالمذكور لأنه ملحوظ لأذهانهم كل يوم من أيام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم به.
وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة الأعراف فضمه إلى ما هنا.
ويجوز أن يكون ضمير {بعده} عائداً إلى القول المأخوذ من {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48] فإن أمرهم بالركوع الذي هو كناية عن الإِيمان كان بأقوال القرآن. اهـ.